آهات مرضى بأعمار مختلفة تتعالى، وعويل نساء على أطفالهن المهددين بالموت في الحضّانات، معاناة وألم ارتسمت على وجوه أسر المرضى بمستشفى "الشفاء" في قطاع غزة.
رائحة نكبة تقترب.. تحول المستشفى لمكان تجتمع فيه الحيرة والبؤس والحزن والموت معا.. حيرة تعلو وجوه الأطباء الذين لا يملكون إسعاف مرضاهم المعلقة أرواحهم بالوقود والكهرباء.. بؤس وحزن يخيم على أقارب وأهالي المرضى الذين ينتظرهم الموت مع نفاد آخر لتر من الوقود في مخازن المستشفى.
هذا ما بدا واضحا خلال جولتي بالأمس داخل أقسام مستشفى الشفاء بمدينة غزة، ربما ساعات بسيطة تفصل مرضى القطاع -وتحديدا ذوي الحالات الحرجة - عن الكارثة التي ستضرب أطنابها في داخل المستشفيات، لترفع من عدد ضحايا الحصار الذي شددته إسرائيل منذ أسبوع لأكثر من 500 حالة وفاة، وهي الإجابة التي اتفق عليها أطباء المستشفى.
قسم غسيل الكلى
في قسم "الكلى" بالمستشفى، تجد تفاصيل الحكاية واضحة.. ففي الركن الأيمن من الغرفة المشتركة لمرضى الكلى، نجد المريض أحمد جندية البالغ من العمر "62 عاما" على جهاز "غسيل الكلى" وعيناه ما انفكت أن تحدق بالأنابيب التي تنقل الدم إلى جسده والتي يخشى أن تتوقف في أي لحظة، لا سيما إذا ما انتهى مخزون المستشفى من الوقود الذي يشغل أجهزة الغسيل، الأمر الذي سيفقده دمه ويجمده.
بالكاد استطاع جندية الحديث عن معاناته التي تتفاقم مع تشديد الحصار، حيث أنهكه الألم، فقاطعه نجله محمد الذي يرافقه، قائلا: "إن لم يقم والدي بعملية الغسيل ثلاث مرات أسبوعيًّا فسيتعرض لخطر حقيقي"، مؤكدا أن والده والمرضى الآخرين يتعرضون للموت البطيء، خاصة أن المستشفى بدأت تقلص عدد مرات الغسيل لمرضى الكلى.
وقال محمد: "هناك معاناة متزايدة.. نعاني في نقل والدي للمستشفى؛ لأنه لم يعد هناك وقود يحرك سيارات الأجرة وكذلك الإسعافات.. نعاني من أزمة نفاد الأدوية.. ليس لنا سوى الله".
واستوقفتنا حالة المريضة فوزية محمد (في الستين من عمرها) التي تعاني من مرض الكلى وهي تصرخ: "حياتنا الكهرباء.. نعيش على الكهرباء.. لا تقطعوا التيار عنا.. سنموت".
استغاثات اقشعرت لها أبدان الأطباء الذين التفوا حولها يحاولون طمأنتها، وهم لا يملكون حولا ولا قوة.
ويؤكد د.أيمن السيسي رئيس قسم الكلية الصناعية أن هذا القسم من أهم أقسام مستشفى الشفاء، حيث إن مريض الفشل الكلوي تبقى حياته معرضة للخطر إن لم يتعرض لجهاز الغسيل بشكل دوري.
وقال السيسي لـ"إسلام أون لاين.نت": "بعد أن انقطع التيار الكهربائي، أصبحنا نعمل على المولدات الكهربائية، وهذه المولدات سينتهي عملها خلال الساعات القادمة؛ لأن الوقود شارف على الانتهاء"، مؤكدا أنهم مقبلون على كارثة إنسانية حقيقية.
ويضيف رئيس قسم الكلى وهو يبدو منهكا جراء حالة الطوارئ التي أعلنتها وزارة الصحة قائلا: "سيموت 200 مريض فشل كلوي في مدينة غزة وشمالها فقط، ونحن الآن لا نستطيع مغادرة المستشفى ونعمل على مدار 24 ساعة لمواجهة أي طارئ".
وبيّن السيسي أن هناك عشرة أجهزة تعمل من أصل ثلاثين جهازا لغسيل الكلى، مرجعا سبب ذلك إلى العطل الذي أصاب هذه الأجهزة، وعدم استطاعتهم جلب قطع غيار لها في ظل إغلاق معابر القطاع.
بين الحياة والموت
بطبيعة الحال انعكست هذه المأساة على كافة أقسام المستشفى.. ففي قسم العناية المركزة يرقد 15 حالة مغيبة تماما عن الوعي نتيجة تعرضهم للقصف الإسرائيلي، لا تجد لهم حراكا، سوى سكون يقطعه رنين الأجهزة الطبية الذي ينذر بخطر قادم.
وعلى مدخل قسم العناية المركزة دخل الشاب أحمد مسرعا، وأخذ يلهث خلف رئيس القسم ليطمئن على صحة شقيقه الذي علق بين الحياة والموت، وهو لا يكف عن سؤال كل من يصادفه: "هل نفد وقود مولدات المستشفى؟".
يقول أحمد بانكسار: "الأطباء قالوا إن الوقود المخصص للمولدات على وشك الانتهاء وحياة شقيقي ستكون في خطر"، مشيرا إلى أن شقيقه الغائب عن الوعي حصل على تحويلة للعلاج خارج المستشفيات الإسرائيلية نتيجة حالته الحرجة، لكن الاحتلال يرفض فتح المعابر أمام أي من المرضى، وإن كان لتلقي العلاج.
ويصف د.رائد العريني، مسئول العلاقات العامة في المستشفى، الوضع الصحي بالمأساوي، قائلا: "لا نستطيع التعبير عن المأساة التي يتعرض لها المرضى.. المرضى ينتظرون رحمة ربهم"، لافتا إلى أن المرضى مقبلون على الموت المحقق إن نفد مخزون المستشفى من الوقود، والذي قال إنه لا يكفي إلا لبضع ساعات.
وأشار العريني وعلامات الحيرة تعلو وجهه، إلى أن 15 حالة في قسم العناية المركزة يعيشون على أجهزة تنفس صناعي، وإذا توقف المولد فسيموتون.
هناك 25 حالة في قسم حضّانة الأطفال أيضا معلقون بين الحياة والموت، وغرف العمليات متوقفة تماما عن العمل لعدم وجود وقود كافٍ.
يهدد خطر الموت قائمة كبيرة من المرضى أصحاب الأمراض الخطيرة والمزمنة، جراء عدم تلقيهم العلاج بسبب عدم توفر الأدوية ومنعهم من مغادرة القطاع لتلقي العلاج نتيجة الحصار الإسرائيلي المشدد وإغلاق كافة معابر القطاع منذ عدة أشهر.
وكان مصدر طبي بوزارة الصحة قد أعلن عن وفاة الفتى محمود ناهض حسين (15 عاما) بعد رفض الاحتلال السماح له بالسفر لتلقي العلاج ورفض تصريح قدمته عائلته ثلاث مرات متتالية، كما أعلنت مؤخرا مصادر طبية عن وفاة الضحية الثانية والسبعين من المرضى جراء الحصار الإسرائيلي المشدد المفروض على قطاع غزة، منذ حزيران/ يونيو الماضي.
وبحسب إحصائيات شبه رسمية يتعرض نحو 1500 مريض من قطاع غزة إلى خطر الموت بسبب حاجتهم الماسة لتلقي العلاج خارج مستشفيات القطاع، خصوصا بعد أن فقدت مستشفيات القطاع مئات الأصناف من الأدوية والعقاقير الطبية، وأصبحت مخازن وزارة الصحة وكذلك صيدليات القطاع خالية من الأدوية، كما تمنع سلطات الاحتلال من إدخال شاحنات الأدوية المتوقفة على المعابر منذ أسبوع.
وفي ظل هذا الوضع المؤلم الذي يعانيه المرضى في غزة، يبقى لسان حالهم يسأل "متى سنموت؟ أو هل سنحيا؟!