لم نعد قادرين على اليأس أكثر مما يئسنا احلام مستغانمي



ثرثرة نسوان.. في حضرة الرهبان

ل محمود درويش، أعتقد أننا «لم نعد قادرين على اليأس أكثر مما يئسنا».
ومثل الفضل بن عيّاض مردّداً قول أسلافه، أؤمن «بأنّ على كلّ شيىء زكاة، وزكاة القلب الحزن».
ولكن وقد بلغت من اليأس عتيّاً، ودفعت زكاة قلبي قبل حلول عيد الفطر يومياً، أمام نشرات الأخبار، فلم يبقَ لي والله، لمواجهة زمن عجيب كهذا، إلاّ الصمت أو الانتحار.
وكنت قد قرأت يوماً لأحدهم: «إذا التقيت إنساناً حزيناً فسلِّم لي عليه»، وحاولت ألاّ أتذكره هذه الأيام، حتى لا أقضي وقتي في السلام على كلّ غريب أصادفه، وكلّ وجه يطل عليّ في تقرير إخباري أو برنامج متخصص في الجدل السياسي.
ولذا قررت الانقطاع عن مشاهدة التلفزيون، وذهبت حتى العزوف عن مجالسة الناس، واستبدال ضوضاء العالم بشهر من الصمت التام. وأنصحكم بالاقتداء بي، متأملين هذا القول العميق لميخائيل نعيمة: «لو كان لي السلطان المطلق على الأرض، لأمرت بيوم واحد على الأقل من كلّ سنة، تُكرّسه كل شعوب الأرض للسكوت والتأمل، لكنّ هناك أمماً محنتها الثرثرة، فهذه أُحتّم عليها الصمت شهراً كاملاً في السنة».
وتمنيت لو عُمم هذا القول على الفضائيات العربية، عساها تجد فيه حكمة ما.
وكنت أبحث عن طريقة، أُجبر بها بعض المذيعات على السكوت، خاصة اللائي تتضاعف قدرتهن على الثرثرة في البرامج الرمضانية، وتطول ألسنتهن (تزداد أفواههن كبراً، حلقة بعد أخرى) عندما قرأت عن وجود قرية في روسيا تدعى «نوكمولند» دخلت كتاب «غينيس» للأرقام القياسية باعتبارها صاحبة أدنى درجة للحرارة على وجه المعمورة، إذ كثيراً ما تصل حرارتها إلى 70 درجة تحت الصفر، وهو أمر لا يمنع أهاليها من مزاولة أعمالهم اليومية، شرط اخذ بعض الاحتياطات التي من أحدها عدم التفوّه بالكلام طيلة الوقت حتى لا تتجمد ألسنتهم.
وقد فكرت في أن أقترح على بعض الفضائيات إرسال بعض مذيعاتها إلى هناك في مهمة «تغطية» عسى أن ينجح البرد في تجميد ألسنتهن بعض الوقت، بعد أن زاد طقس الخليج الحار في تمديدها كلّما زرنه في مناسبة ما . . للتغطية.
يبقى أنّ الأمر الذي أفسد عليّ صيامي عن الكلام، هو وجود أختي (صوفيا) في لبنان، وحاجتي، كما حاجتها اليومية، إلى ان نلتقي أو نتهاتف مطوّلاً، لكونها أختي الوحيدة؟
وبالنسبة إلى هذا الموضوع، فقد عثرت له على حلّ يمكّنني من العيش معها في المكان نفسه، دون أن نلتقي أو نتبادل الكلام، بعد ان قرأت مقالاً طريفاً عن «الرهبان الصامتين» في إيرلندا.
وهم رهبان اشتهروا بعيشهم في صومعة «ملراي» في جبال إيرلندا، منقطعين عن العالم وعن شؤون الدنيا، لا ينبسون ببنت شفة، ولا يتفاهمون بغير الإشارة، وقد مرّت على بعضهم أكثر من ثلاثين أو أربعين سنة لم يغادروا فيها صومعة ضمتهم ولا دروا بما طرأ على الدنيا من تغيرات، ومما يُحكى عنهم من قصص عجيبة، أنّ طبيباً ذهب لزيارتهم، وإذا به يفقد الرغبة في الكلام ويعيش بينهم بقية عمره خاشعاً صامتاً.
أما فكرة الإقامة مع أختي هناك، فقد راودتني، عندما قرأت أن أحد هؤلاء الرهبان شعر بدنوِّ أجله، فاستدعى قسيساً، ولما جاءه القسيس، إذا به شقيقه، ولم يكن الشقيقان يعرفان، لانشغالهما بالعبادة، أنهما يعيشان معاً في تلك الصومعة منذ سنوات عدة!
المشكلة أنني إن اصطحبت أختي إلى هناك، لا أدري كم يلزمها من الوقت قبل العثور على هاتف والاتصال بأمي، التي ستلحق بنا حتماً إلى الصومعة، وتحولها إلى برج للإرسال يضارب على الـ CNN. وقد تبدأ بثها بتعييري على هيئتي والديكور البائس لغرفتي. وأنا منذ الآن أُفكر في ما ستقوله أمي عني، أكثر مما سيقوله الرهبان لي، إن أنطقتهم صاعقة وصول حاجّة جزائرية بصحبة ابنتيها إلى صومعة صمتهم.