تحولت وظيفة "مندوب مبيعات" في مصر خلال الفترة الأخيرة إلى مهنة سيئة السمعة، خاصة أن باب العمل بها أصبح مفتوحا لكل من "هب ودب" حيث لا توجد شروط معينة لمن يعمل فيها باستثناء القدرات الشخصية واللباقة.
وبمرور الوقت وغياب الضوابط التي تحكم العمل في هذه المهنة؛ تسلل إليها مئات الآلاف من العاطلين والنصابين وأيضا اللصوص، وظهرت جرائم عديدة كان أبطالها يتنكرون في مهنة مندوب المبيعات؛ حتى يتمكنوا من الدخول بسهولة إلى المنازل والشركات والهيئات الحكومية.
كما نجح بعض رجال الأعمال الجدد في استغلال سيف البطالة الذي يهدد آلاف الخريجين سنويا وكونوا ثروات ضخمة من خلال التوظيف الوهمي لهؤلاء الباحثين عن فرص عمل في السوق المصرية.
وليست هناك أرقام رسمية حول من يعملون في مهنة "مندوب مبيعات" بمصر، لكن بعض الخبراء الاقتصاديين يقدرون عدد العاملين في هذه المهنة بمليون شاب وشابة يمتلكون مؤهلات عليا ومتوسطة، وهذا الرقم نتيجة تقريبية لحجم الخريجين سنويا في مصر، حيث يصل عددهم إلى 400 ألف خريج سنويا طبقا للجهاز المركزي للإحصاء والتعبئة عام 2001
ورغم هذا العدد الكبير لمندوبي المبيعات فإنه لا توجد لهم أي جمعية أو نقابة، أو حتى إطار قانوني يعملون تحت مظلته، فضلا عن عدم توافر الدراسات العلمية والإحصائيات الدقيقة. والسبب في ذلك يرجع إلى رفض أصحاب الأعمال الخاصة منح هؤلاء الشباب أي ضمانات أو تسجيلهم والتأمين عليهم بشكل قانوني؛ تجنبا لتحمل أعباء والتزامات مالية وقانونية تجاههم.
وفي نفس الوقت يضطر مندوبو المبيعات إلى الخضوع لشروط صاحب العمل المجحفة؛ نظرا لعدم توافر البدائل وصعوبة الحصول على وظيفة مشروعة تستوعب المستعدين للعمل الذين يتضاعف عددهم عاما بعد عام.
وأهملت الجامعات ومراكز الأبحاث المصرية هذه الفئة من المجتمع؛ نظرا لأنها تعد من الفئات والوظائف الحديثة بالمجتمع.
بداية ظهورها
يعود ظهور مهنة مندوبي المبيعات بشكل موسع في مصر إلى عام 1991 حيث بدأت الحكومة في تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي؛ وهو الأمر الذي صاحبه تنامي القطاع الخاص بكل قطاعاته، وخاصة قطاع التصدير والاستيراد الذي أغرق السوق المصرية بمنتجات صينية رخيصة الثمن وقليلة الجودة في آن واحد، وكان من الضروري أن تلجأ شركات الاستيراد إلى وكلاء في القاهرة والمحافظات، واعتمد الوكلاء في الأساس على أشخاص يتولون تسويق وبيع هذه السلع والمنتجات للجمهور.
من جهة أخرى بدأت المصانع والشركات الجديدة التي أنشئت في مدينتي 6 أكتوبر والعاشر من رمضان في الاستعانة بالمندوبين للترويج لمنتجاتها.. كل هذه الشركات ورجال الأعمال والوكلاء بدءوا في الإعلان بالصحف الكبرى على حاجتهم لشغل وظيفة مندوب مبيعات، ولم يشترطوا سوى الحصول على مؤهل عال أو متوسط، وحسن المظهر، مع الإشارة إلى كلمة "المرتبات مغرية والحوافز ضخمة".
وفي ظل بطالة طاحنة بمصر تصل نسبتها إلى 6.6% من قوة العمل البالغ عددها 24 مليون نسمة خلال عام 1999 حسب إحصاءات البنك الدولي فقد هرول الخريجون إلى أصحاب هذه الإعلانات، مستعدين للقيام بكافة المهام. وتنبهت هذه الشركات إلى أن كل من يتقدمون للعمل في مهنة مندوب مبيعات لم يسبق لهم أي خبرة وليس لديهم أي معلومات مسبقة عن طبيعة المهمة التي سيكلفون بها؛ فلجأت إلى تكليف بعض الأشخاص أو المندوبين القدامى إلى تولي مهمة تدريب المندوبين الجدد بطريقة غير علمية، ولمدة لا تتجاوز الأسبوع.. وينطلق بعدها المندوب إلى السوق.
أنواع .. وطرق
تختلف مهنة مندوب المبيعات من شركة إلى أخرى ومن سلعة إلى أخرى أيضا؛ فحينما نكون أمام سلعة مهمة مثل الدواء فان من يسوقها يكون في الغالب خريج كلية العلوم وأحيانا خريج كلية طب كان من الصعب عليه امتلاك عيادة أو العمل في مستشفى حكومي براتب لا يتجاوز 300 جنيه (60 دولارا تقريبا).
وعمدت الشركات العاملة في قطاع الأدوية إلى اختيار مندوبين مميزين يصل راتبهم إلى 1500 جنيه (300 دولار) وتعطيهم سيارة ومميزات كبيرة، غير أن هذه الفئة تكاد تكون الاستثناء من ضمن فئة مندوبي المبيعات، خاصة الذين يروجون لشركات صغيرة ومنتجات ليس لها شهرة أو علامة تجارية مسجلة.
وكانت أبرز طريقة ابتدعها مندوبو المبيعات -خاصة للسلع الصينية- هي الذهاب مباشرة للمصالح والهيئات الحكومية للبيع هناك؛ حيث تراهم يحملون حقائب ضخمة مليئة بالبضائع والسلع التي تبدأ بالشوك والملاعق، وتنتهي بمعدات تصليح السيارات، مرورا ببعض السلع الغذائية من الثوم والصلصة والعصائر.
غير أن البعض منهم يتوجهون إلى المنازل مباشرة ويطرقون الأبواب بطريقة غير مدروسة؛ وهو ما يعرضهم للأذى ويسيء إلى سمعتهم، ويجعل بعض المواطنين ينظرون ويتعاملون معهم بنوع من الاشمئزاز رغم أنهم مضطرون إلى اللجوء لهذا النوع من السلوك التسويقي الغريب والبدائي.
لكن الدافع إلى ذلك أن الشركات والوكلاء المسئولين عن تشغيلهم يحددون لهؤلاء المندوبين رواتب ثابتة زهيدة، وبالمقابل يحددون حوافزهم بناء على حجم مبيعاتهم، وكل مندوب وقدرته على بيع أكبر عدد يمكن من السلع حتى يحقق أكبر عائد، وعادة فإن الوكلاء يراعون أن يكون المرتب الثابت أقل من حافز البيع؛ ليضمنوا بذل المندوب أكبر جهد للتخلص من البضائع التي تسلمها صباح كل يوم؛ حيث يتراوح متوسط راتب الشاب بين 100 إلى 150 جنيها شهريا (30 دولارا شهريا) بجانب حوافز البيع التي تصل إلى ضعف هذا المبلغ، ويختلف حجم الحوافز من شركة إلى أخرى، وذلك حسب نوع وقيمة السلع التي يروج لها المندوب.
وأحيانا تتحول وظيفة مندوبي المبيعات إلى وسيلة للإيقاع بالفتيات في براثن الرذيلة والانحراف؛ فقد ضبطت أجهزة الأمن المصرية بعض العاطلين يديرون شبكات دعارة عن طريق هذه الوسيلة، حيث يتم الإعلان في الصحف عن طلب مندوبي مبيعات من الجنسين حتى لا يتم لفت الأنظار، ويتم قبول جميع الطلبات وملء الاستمارات والبيانات، ويختار هؤلاء المجرمون الأماكن الراقية في وسط القاهرة، ومعظمها مكاتب وشقق مفروشة ومؤجرة بشكل مؤقت. وحسب الحوادث التي تم ضبطها يتم اختيار بعض المتقدمات لإجراء المقابلة الشخصية مع مدير الشركة، وتفاجأ الفتاة بأن المدير عبارة عن ذئب بشري، إما أن يغتصبها أو يراودها، مستغلا ظروفها الاقتصادية أو الاجتماعية. وفي بعض الأحيان يتم تصوير الفتيات مع المدير المزعوم، وبعد ذلك تخضع المتقدمة لابتزاز صاحب العمل الذي يعرضها على راغبي المتعة الحرام.
هارب بالملايين
ويروي المهندس محمد الزواوي -35 سنة- من مدينة المنصورة تجربة لصديق له عمل في مجال مندوب المبيعات وكون ثروة، ولكنه الآن هارب من ملاحقة البنوك إلى الولايات المتحدة.
ويقول محمد: في بداية عام 1990 كانت أجهزة الترجمة الفورية ولعب الأطفال والكمبيوتر والأتاري مازالت بضائع جديدة على السوق المصرية، واستطاع زميلي التعرف على وكيل إحدى الشركات المستوردة لهذه البضائع، وعرض عليه العمل معه، وبالفعل نشر إعلانا بصحيفة يومية ووضع أرقام تليفونات مكتب أحد أقاربه، وفي اليوم التالي لنشر الإعلان كان عنده 300 شاب وشابة من خريجي الجامعات، وأجرى لهم اختبارات، وتم تضييق المتقدمين إلى 50 من الجنسين، وتعاقد مع الوكيل على 500 جهاز ترجمة ولعب أطفال، ووزعها على المندوبين، وحثهم على سرعة بيع هذه الأجهزة حتى يتم تعيينهم بشكل ثابت، فضلا عن ترقيتهم.
وفي المقابل حصل على توقيع كل واحد منهم على شيك بقيمة البضائع التي تسلمها، وبعد أقل من شهر كان المندوبون يتنافسون على بيع جميع الأجهزة.
ويضيف الزواوي أن زميله حقق من هذه الصفقة مبلغا ضخما تمكن به من استئجار مكتب خاص، وكرر عملية الإعلان… وهكذا حيث كان في كل شهر يحقق ربحا أعلى في سلع متنوعة، وتعرّف على سوق السلع المعمرة، وبدأ يرسل المندوبين لعرضها على المواطنين بنظام الأقساط، وعن طريق الفواتير والشيكات، وحصل على قروض بقيمتها من البنوك، ثم دخل لعبة العقارات وتجارة السيارات وأصبح وكيلا لشركات تصنيع السيارات في كوريا، لكن بعد أن انكمشت الأسواق وتراجع الاستهلاك بدأ يتعثر في تسديد أقساط البنوك التي بدأت تلاحقه، خاصة أن تعاملاته وصلت بعد حوالي عشر سنوات إلى نحو 100 مليون جنيه مصري، وكانت النتيجة أنه هرب خارج البلاد، وهو يقيم حاليا في الولايات المتحدة.
تحتاج لضوابط
يقول د. أسامة محمد زكي الأستاذ بكلية تجارة القاهرة: إن ظاهرة مندوبي بيع السلع في المنازل من الظواهر التي انتشرت في الدول الصناعية المتقدمة، وما زالت موجودة في الولايات المتحدة وأوروبا حتى الآن، ولكن كل دولة تضع الضوابط والقواعد الكافية التي تحكم هذه المهنة، وتحفظ حقوق جميع الأطراف المشاركة في العملية، سواء كان المستهلك المستهدف، أو الشركات المنتجة وسمعة إنتاجها، أو حتى المندوب نفسه، بالإضافة إلى المجتمع الذي يعيش فيه.
لكن الدكتور زكي يضيف قائلا: "الحاصل في مصر أن هذه المهنة ما زالت تخضع للعشوائية من كافة الأطراف، بداية من اختيار المندوب غير المدرب الذي لا يحمل مؤهلات دراسية كافية لتمكينه من تسويق منتجه بالطريقة اللائقة، وانتهاء بالجهة التي تقوم بتشغيله، بالإضافة إلى الجهات الحكومية التي لا تعرف شيئا عن هذه الفئة، وتركتهم يصنعون مصيرهم بأنفسهم مع أرباب العمل".
وكانت النتيجة أن هؤلاء يعملون بدون ضمانات كافية لحماية حقوقهم وحماية المجتمع من انحرافات بعضهم؛ فالخطر قائم من الطرفين، حيث يمكن أن تطرق فتاة باب شقة أحد الأشخاص في ظروف معينة فيقوم بالاعتداء عليها واغتصابها.. أو العكس: ربما يتجه مندوب إلى أحد المنازل ويستغل سهولة دخوله البيوت ويرتكب بعض الجرائم. وهذا النوع من القضايا حدث بالفعل في السنوات الأخيرة في مصر؛ لأن المسألة تتم في كل مراحلها بالطرق العشوائية، بعيدا عن الدراسة والإحصاء. كما أننا كباحثين ليس لدينا أي بيانات أو إحصاء يتعلق بهؤلاء الشباب، فضلا عن أنهم غير مسجلين لدى وزارة القوى العاملة، وهي الجهة المسئولة عن هذه المهمة.
المهم.. التأهيل
ويشير د. زكي إلى أنه يجب تشجيع الشباب المتجه للعمل في هذه الوظيفة، بشرط أن نؤهله لهذه المهمة بالتدريب الكافي، ولكن على نفقة جهة العمل؛ لأنهم حديثو التخرج وليس بمقدورهم الإنفاق على عملية التدريب حيث لا يملكون أي شيء، خاصة أن هذه الوظيفة استوعبت آلاف الشباب الذين رفضوا الاستسلام لشبح البطالة، وبدءوا يطرقون سوق العمل دون انتظار الوظيفة التقليدية، وعلى جميع الأطراف مساعدتهم والأخذ بأيديهم وتوعيتهم تجاه واجباتهم وحقوقهم.
وطالب د. زكي الجهات الرسمية والأهلية بأن تكثف من رعايتها لهذه الفئة المتنامية، وأن تشرف وزارة القوى العاملة ومكاتبها على تسجيلهم ووضع الإحصائيات اللازمة وبيانات كل من يعمل بهذه الوظيفة؛ تمهيدا لإنشاء جمعية أو نقابة تتولى تجميع هؤلاء في إطار واحد وتحت مظلة تحميهم وتحافظ على حقوقهم لدى أصحاب العمل، إضافة إلى أنه على الجامعات أن تقوم بدور فعال في توفير فرص التدريب المجانية أو شبه المجانية لإعدادهم لسوق العمل، وتوفير المعلومات والدراسات الكافية عن طبيعة مؤهلات العاملين في هذه الوظيفة.