حينما نادى أفلاطون في جمهوريته المثالية منذ ألوف السنين بتربية النشء على حب الموسيقى و الرياضة و جعل من الموسيقى و الرياضة حصصا ثابتة في منهج الطالب، كان صاحب فلسفة و كانت له وجهة نظر، فالموسيقى هي الوسيلة لتربية الذوق و تنمية الحس الجمالي، و الرياضة هي الوسيلة لكمال الجسد و تنمية الشجاعة و الخلق الكريم.
و قد عشنا و رأينا ألوانا من الموسيقى الرفيعة تربي الحس الجمالي بالفعل و ترفع الذوق.. كما رأينا على أيامنا ما تفعله الرياضة في كمال الأجسام و في كمال الأخلاق.. و لكن يبدو أن العصر اختلف.. و الموسيقى اختلفت.. و الرياضة اختلفت.. و أصبحنا نقرأ عن مباراة عالمية في دور تشستر يسقط فيها عشرات القتلى و يتقاتل فيها المشجعون بالسكاكين و العصي و الزجاجات الفارغة، و رأينا معارك أشد في مباراة عالمية أخرى في إيطاليا و ثالثة في الدنمارك و تحول الأستاد الرياضي إلى مسرح جرائم و في بلدنا رأينا المتفرجين يسقطون موتى بالسكتة القلبية لأن الكرة دخلت في مرمى الزمالك أو الأهلي، و رأينا المشجعين يتبادلون اللكمات و يعتدون على اللاعبين و على الحكم و يسبون هذا و ذلك بأقذع الألفاظ.
و في كل أوليمبياد تكتشف اللجنة أبطالا مشهورين يلجأون إلى الغش و تعاطي الحقن الممنوعة ليتفوق كل واحد على منافسيه بدون وجه حق.
و في آخر خبر جاء من أمريكا رأينا بطلة أوليمبياد التزلج على الجليد تونيا هارودنج ترشو زوجها البلطجي جيف جالوا ليقوم بعمل كمين لمنافستها نانسي كاريجان و يضربها على مفصل الركبة اليمنى ضربة تكسحها و تمنعها من دخول الملعب.
و يعترف البلطجي على زوجته، و يقول إنه تلقى منها رشوة خمسة آلاف دولار و وعودا بآلاف أخرى إذا أنجز مهمته على الوجه الأكمل.. و انفجرت فضيحة تناولتها كل الصحف.. ثم إن الرياضة نفسها تحولت إلى تجارة مفترسة، و أصبح لها سماسرة و أصبح لكل بطل مدير محترف و مكتب دعاية و ملحق صحفي و عصابة تتحرك لحراسته أينما ذهب، و أصبحت البطولة بابا مفتوحا لملايين الدولارات.. و نجوم التنس و الملاكمة و السباحة و الجري و القفز أصبحوا أصحاب ملايين و نجوم شهرة Super Stars و أصبح العرف السائد هو الوصول إلى الكأس.. بأي سبيل و لو بالغش و التدليس و الإجرام.. و أصبحت الرياضة شيئا آخر غير الذي تكلم عنه أفلاطون.
و رأينا نجوما مثل مارادونا يسقطون من قمة النجومية إلى هاوية الإجرام و الشم و المخدرات ثم يفقدون كل شيء.
و كان ما حدث للموسيقى أكثر.. فسيمفونيات بيتهوفن و شوبان و فاجنر.. و قصائد الشوقيات و أصوات أمثال عبد الوهاب و عبد الحليم و أم كلثوم و وديع الصافي و فيروز تراجعت لتحتل المسرح راقصات و راقصون يهزون الصدور و الخصور و كورس يصفق و طبال يطبل، و ظهر الديسكو الغربي الذي حول الغناء إلى زار و صراخ و ضجيج و عجيج و أصبح الطرش و فقدان السمع من أمراض السميعة المدمنين.. و نفس الشيء حدث في السينما و المسرح.. و رأينا ممثلات كبيرات يعتزلن لأن الأفلام المتاحة أصبح أكثرها هابطا و فاحشا و أشبه بعمل فاضح في الطريق العام.
و أبطال كمال الأجسام الآن تلتقطهم السينما لأفلام الرعب و الإجرام ( مثل شوارزنجر و أمثاله ).
و الرياضة و الموسيقى و الغناء و السينما و المسرح و باقي الفنون تحولت في نظام اقتصاد السوق إلى المواصفات الأمريكية و اتجهت إلى القبلة التي تفرضها بورصة هوليوود و يحكمها الدولار.
و لو أن أفلاطون بعث اليوم حيا لأنكر ما يرى و ما يسمع و لسحب كلامه و حل جمهوريته و فضل عليها بيع الخضار في الأسواق. فلم تعد هناك علاقة بين الموسيقى و تنمية الذوق، و لا بين الرياضة و تنمية الأخلاق الحميدة.. و إنما أصبحنا نرى بورصة مثل بورصة نيويورك و ريجنت ستريت تفرض مواصفاتها و الكل يطيع.. و الأخلاق في النازل.. و الأذواق في النازل.. لا يهم.. ما دامت المكاسب في الطالع و لو بالغش و لو بالإجرام و لو بالعهر.
و لا أعمم فما زالت هناك استثناءات و لكنها قليلة، فالعملة المزيفة تطرد العملة الجيدة أولا بأول، و الفنون المريضة تجد لها زبائن أكثر، و نفوسا مريضة تروج لها أكثر فأكثر.. و الجيد في السوق قليل.
و رغم تفوق أمريكا في العلوم و التكنولوجيا و وسائل القوة.. إلا أن أثرها مدمر في مجالات الفنون كلها بلا استثناء.
و أسلوب التسويق الأمريكي هو الذي أخرج الرياضة من خانة الفن الراقي و نزل بها إلى ساحة الغش و الإجرام.. و أنا أفهم أن نأخذ عن أمريكا علومها و تكنولوجيتها و لكن لا أفهم كيف نرضى بأن نأخذ عنها فنونها.
و أقول لكل الفنانين.. ألا تجدون قبلة أخرى تصلون لها غير واشنطن و باريس و لندن ؟ أليس لنا ذاتية و جذور و عطاء خاص ؟.. أليس لنا تاريخنا الذي تفردنا به و روحنا التي تفردنا بها أيضا ؟.. أليس لنا فضائلنا و تراثنا ؟.. ألسنا مهبط الوحي و ورثة الأنبياء ؟
أين نحن فيما تفعلون ؟ و أين نحن في هذا الطبل و الزمر و التهريج و التجارة الرخيصة و التقليد الأعمى و الجري وراء المستورد و المغشوش من كل لون ؟
أين نحن و أين أنتم من أنفسكم، و من جوهركم و من ماهيتكم التي ضاعت في الطوفان ؟!
المصدر : كتاب (( سواح في دنيا الله ))
للدكتور مصطفى محمود