كان من عادة الشيوعيين حينما يُذكر موضوع الزكاة أن يبتسم الواحد منهم في سخرية و كأنما وجد الثغرة التي ينفذ منها ، فالزكاة عنده هي الحل المخجل لمشكلة العدل الاجتماعي ، فالعدل لا يعالج بالتسول و بتوزيع الصدقات ، و إنما بالبتر و الاستئصال و النكال و التنكيل بالمستغلين الظالمين ، و نزع أصحاب المال و أصحاب الأرض من جذورهم بانقلاب شيوعي يصحح الأوضاع ، و هذا التوصيف الشيوعي للزكاة خاطئ .
و لكن نبرة العنف في كلام الرفاق تذكرني دائما برأي قاله المفكر الإسلامي المغربي الدكتور المهدي بن عبود : إن الشيوعية في الحقيقة طبع .. الشيوعية غل و حقد و ضغن و طبيعة ثأرية تنزع بصاحبها إلى طلب النكال و التنكيل و الإذلال و التسلط ، و هم لا يرون إصلاحا إلا أن يكون بترا و استئصالا دمويا و قلبا لكل شيء من القواعد ، و هي طبيعة تلتمس دائما المذهب الذي يساعدها ، و من هنا كان اختيارهم للشيوعية لا عن اقتناع و لا عن منطق و لا عن عقل ، و لكن عن طبع ، و هم أنفسهم الذين اختاروا فيما مضى مذهب الخوارج و القرامطة و الخرمية ، و هم أنفسهم الذين اختاروا فيما بعد التكفير و الهجرة ، لأنه يشبع فيهم نفس الطبيعة .
ثم نعود إلى تصور الرفاق عن الزكاة و نقول لقد فهموها خطأ ، فليست الزكاة هي تفضل من الغني يلقي به للفقير من باب حسنة لله يا محسنين ، و ليست صدقة لمتسول ، بل هي حق يؤخذ من خير مال القادر ، و يصل إلى يد المحتاج في كرامة و دون أن يسأل أو يمد يدا ، فما يصل إليه حق و ليس تفضلا ، و حكمه حكم الضريبة التي تؤخذ بقانون و تنفق بقانون .
ثم إن الإنفاق ليس له حد أقصى فهو في حده الأدنى اثنان و نصف في المائة ، و تلك هي الزكاة المفروضة ، و لكنه مفتوح في حده الأقصى إلى ما شاء الله و ما شاء كرم المعطي و إيمانه .
(( و يسألونك ماذا ينفقون قل العفو )) .
أي كل ما تراه زائدا عن حاجتك حتى 99 في المائة مما تملك إذا اعتبرت أن حسبك لقمتك و ثوبك و كفافك و الباقي لله فهي تجارة مع الله و تعامل مع الخالق و ليست تفضلا على الخلق ، و لكن مثل هذا الإنفاق الزائد لا يكون إلا تطوعا و اختيارا من صاحبه و ليس فرضا من أحد ، و هي من حيث اسمها (( زكاة )) ، فهي تزكية لصاحبها و تطهير له .. يتطهر بها من الشح و البخل و الأنانية فالمنتفع الأول منها صاحبها .
و الصدقات أوساخ الناس كلما أنفقت منها تطهرت و صفت نفسك من تعلقاتها المادية الأرضية .
و لا ينقص مال من صدقة ، و ما أنفقت من مال فإن الله مخلفه ، قد يخلفه الله مالا أو صحة أو رحمة أو ذرية صالحة أو نجاحا أو توفيقا ، و لكن لابد من أن يثيب الله فاعل الخير دنيا و آخرة هذا قانون إلهي لا يتخلف و يعرفه تماما الذين يقبلون على الزكاة و يتنافسون فيها و الله لا يخلف وعده أبدا .
و الزكاة تلطف الحقد و تكسر العين الحاسدة و تؤلف القلوب ، لأنها مال حلال يخرج من صاحبه حبا و كرامة و طواعية و يصل إلى المستحق دونما من و لا أذى .
و إذا أدخلنا في نصاب الزكاة ، زكاة الشركات و زكاة البنوك ، و زكاة المؤسسات التجارية ، و زكاة الدول التي خصها الله بالموارد و الثروات ، فإن مجموع النصاب الناتج سيتجاوز المليارات عداًً ، و سيصبح في طاقته أن يغير موازين الاقتصاد الموجودة تماما ، ثم إن إنفاق هذه المليارات بأسلوب عصري و استثمارها لصالح الطبقة الفقيرة ، و لخلق المشاريع لتشغيل الأيدي العاطلة و بناء الصناعات ، و الارتفاع بالتعليم كفيل بأن يغير وجه الحياة دون عنف و دون قهر و دون نكال أو تنكيل .. هكذا تلتقي الأيدي في محبة و تعاون و تكافل فيثمر الخير مزيدا من الخير ، أما العنف الشيوعي فلن يثمر إلا عنفا ، و لن يثمر القهر إلا رفضا و كسلا و لا مبالاة ، و لن يثمر التسلط إلا يأسا و سلبية و ينتهي الأمر بأن ينفض كل واحد يده من كل شيء ، و يقول لتفعل الدولة ما تريد ، و لكن الدولة الشيوعية ليست كائنا حيا سويا ، و إنما هي ديناصور و مسخ شائه من القوى البوليسية و الشعب الخائف المذعور ، ثم طواغيت و مراكز قوى تعمل طليقة باسم الحزب و تظلم و تستغل ، و تنهب كما تشاء باسم الحزب ، و تغطي جرائمها بالشعارات و الأكاذيب و الإعلام الموجه .
و شتان بين هذا التكوين الاجتماعي المتشنج و بين التكوين المتناسق للمجتمع الإسلامي الذي يعمل فيه الكل مؤمنين بأن العمل عبادة ، و أن الإنفاق تعامل شخصي مع الله ، و أن الصدقة تقع أولا في يد الله قبل أن تقع في يد الفقير ، و أن علاج المريض عبادة ، و إقامة جدار عبادة ، و إنشاء كوبري عبادة .. و أن المعروف لا يضيع و العمل الصالح لا يذهب سدى ، و أن المُلك له مالك ، و أن في السماء إلها عادلا عدله لا يتخلف ، و كل هذا يثمر سكينة و رضاً و راحة قلب تساوي الدنيا و ما فيها .
فأين هذا من حال مجتمعات الوفرة و الغنى التي ينتحر أصحابها برغم الوفرة ، و ترتفع فيها إحصاءات الجنون و الأمراض النفسية و القلق و الاكتئاب برغم الغنى ، و تتحلل الأسر و تتفكك العائلات و تنتشر المخدرات و الشذوذ الجنسي و الجرائم و السرقات ، برغم العلم و التكنولوجيا و التقدم و تتضاعف أعداد مراكز البوليس و أقسامه ، و مع ذلك لا تشعر بلحظة أمن و لا تستطيع أن تخرج دولارا من جيبك ، و لا أن تنام دون أن تغلق المزاليج و الترابيس خلف بابك .
لأنها مجتمعات مادية كل مليم فيها محسوب بالكمبيوتر ، ثم لا اعتبار عندها لأي شيء آخر .. أو بشكل أدق لا تؤمن بأن هناك شيئا آخر خارج اللحظة الحاضرة و الدولار الذي في جيبك .. لا حساب لشيء اسمه الغيب و لا اعتقاد في إله .
و الذين يؤمنون منهم بالله لا يدخلون هذا الإيمان في حساب الكمبيوتر ، و هم لهذا يستبدلون الزكاة بشركات التأمين و معاشات النقابات و بدلات البطالة ، و كلها صدقات ، و لكن ذات منطلق مختلف ، فهي لا تعطى لوجه الله ، و إنما اجتهاد علمي من عند صاحبها .. و لسان حال كل منهم يقول :
(( إنما أوتيته على علم عندي )) .
و فارق كبير في النية و الصفائية بين العملين فأحدهما يقول :
وفقني الله فأعطيت ما أعطيت ابتغاء وجهه ، و الآخر يقول :
(( اجتهدت من عندي و أنفقت و أعطيت )) .
فأحدهما لا يرى إلا الله و الآخر لا يرى إلا نفسه .. و لهذا ينتهي عمله إلى الإحباط أما العمل الأول فإن الله يثمره بكرمه و يحفظه برعايته .
و تلك هي الزكاة .. مرهما و بلسما و ملطفا و شفاءً للنفس ، و طهرة للقلب ، و هي تعامل مع الله رأسا دون وسائط ، و إيمان بالغيب و ثقة في المقدور ، و يقين بقوانين العدل الإلهي التي لا تتخلف ، و هي شيء آخر تماما غير مفهوم المعونة الاجتماعية في المجتمع الغربي و قد يسأل سائل فيقول أليس كلاهما عملا صالحا ..
فنقول نعم مع فارق كبير في العرفان ، فأنت في الزكاة لا تعرف لك يدا و لا ترى لك يدا ، و لا ترى إلا يد الله سبحانه الذي ليس كمثله شيء .
أما في المعونة الاجتماعية بالكمبيوتر فلا ترى إلا الورقة المرقمة الخارجة من الكمبيوتر ، و لا ترى إلا يدك و ما تبذل .. و على الأكثر لا ترى سوى إنسانيتك .
و الفرق فرق عرفاني .
و هل الدين كله إلا هذه الكلمة الصغيرة ذات الحروف القليلة .. العرفان .. ؟ و هل طلب الله من نبيه سوى العرفان ؟
فاعلم أنه لا إله إلا الله و استغفر لذنبك .
و هل يفترق مؤمن عن كافر إلا بهذه المعرفة ، الذين يرجون أيام الله ، و الذين لا يرجون أيام الله ، و الذين يوقنون بالآخرة و الموقف و الحساب .. و الذين لا يؤمنون إلا بيومهم و لحظتهم ..
صدقوني إن كلمة الزكاة تعني الكثير ..
المصدر : كتاب (( الإسلام .. ما هو ..؟ ))
للدكتور مصطفى محمود