هل فعلا هذه أسهل الدراسات للحصول على الشهادات العلمية ؟
سامر أبو رمان /(تم حذف الإيميل لأن عرضه مخالف لشروط المنتدى)
تدل عدة مؤشرات على تراجع المستوى الأكاديمي والجدية البحثية العلمية لدى العديد من أساتذة الجامعات وطلاب الدراسات العليا في الجامعات العربية،ولعل خلو تقرير أفضل 500 جامعة في العالم من أي جامعة عربية مؤشر ذو دلالة واضحة في هذه الانتكاسة في التعليم الجامعي.
اعتقد أن من أهم الأسباب لذلك هو انتشار ما يسمى بالدراسات الميدانية أو المسحية في الرسائل الجامعية، والأبحاث العلمية المحكمة، فهذه البحوث - كما هو معلوم – تتضمن فصلا نظريا في موضوع الدراسة، ثم كتابة بعض الأسئلة التي تطرح على فئة معينة من المجتمع، ثم تفرغ الإجابات، وتحلل أو تُرسل إلى مكاتب التحليل المنتشرة عند أبواب الجامعات، وتنتهي الدراسة ليحصل الطالب على شهادة الماجستير أو الدكتوراة، أو يترقى الدكتور بدرجات علمية وصولا إلى الأستاذية.
تنتشر هذه البحوث بشكل لافت للنظر، وأذكر أنه حينما كنت أعمل مشرفا في إحدى المدارس كيف كانت استمارات الباحثين في مرحلة الماجستير والدكتوراة لا تنقطع طلبا في أن تعبئ من قبل الهيئة التدريسية أو الإدارية أو الطلبة ،وفي عدد من أعداد مجلة علمية محكمة في الأردن لم أجد سوى بحث واحد فقط لم يستخدم هذا النوع من الدراسات، من أصل 16 بحثا منشورا شارك بإعدادها 27 أستاذا وأستاذة جامعية! فأصبحت هذه الدراسات هي الصفة البارزة للأبحاث المنشورة في المجالات الإنسانية، ويكفي إلقاء نظرة على عناوين الرسائل العلمية في الجامعات، وعناوين الأوراق البحثية المقدمة في المؤتمرات، لمعرفة مدى شغف الأساتذة والطلاب بهذا النوع من الدراسات.
ولعل من أهم الدوافع للكتابة في هذه الدراسات هو الهروب من الأبحاث العلمية الجادة إلى الأبحاث السهلة - كما يعتقد الكثير من الباحثين - فهذه الأبحاث تتشابه إلى حد كبير في المنهجية، والعنوان، والشكل العام، وكأنها نسخة طبق الأصل، فيتناول هذا الباحث أثر عامل مستقل ما على عامل متغير آخر من خلال عينة من المجتمع، ثم يأتي باحث آخر ويغير العنوان والعوامل، ويختار عينة أخرى ليستطلع رأيها بنفس المنهجية وطريقة التحليل وهيكلية الدراسة، بل ويلاحظ التشابه لدرجة تكرار اعتماد مقياس "ليكرت" ذي الخمس خيارات ( أوافق بشدة، أوافق،.....إلخ ) كنموذج واحد في مقياس الإجابات، وكأن طلابنا وأساتذتنا لا يعرفون سواه.
تحتاج هذه الدراسات الدقيقة - التي يستسهلها الكثيرون - إلى إمكانيات مهنية وعلمية ومالية، لا أعتقد أن السواد الأعظم من هؤلاء الباحثين يملكونها؛ فهناك خطوات علمية بدءا من التخطيط لإجراء الدراسة، ووضع الأهداف التفصيلية، وطريقة كتابة الأسئلة، وإجراء الاختبار القبلي ( pretest)، و تدوين الإجابات، واكتشاف الأخطاء وتصحيحها، ووزن العينة، وتحليل الإجابات، وكتابة النتائج .......إلخ. فمثلا في طريقة تنفيذ المقابلات البحثية هناك العديد من الخطوات والتقنيات - التي نصت عليها مواثيق الشرف والأخلاق لمنظمات الرأي العام - التي يجب أن يتقنها الباحث، سواء قام بنفسه بتنفيذ المقابلات أو كلف بها غيره. وتقدم بعض هذه المواضيع في برنامج تدريبي متخصص، تتغير محاوره حسب طريقة تنفيذ الدراسة وطبيعتها، كخطوات ما قبل بدء المقابلة البحثية، وفي بدايتها وأثنائها و نهايتها، وطريقة طرح الأسئلة، والانتقال بين الأسئلة أثناء المقابلة، ومعرفة كيف ومتى تستخدم العبارات التجسيرية –الرابطة-(Bridging Remarks) ـ مثلا ـ ونبرة الصوت، وتدوين الإجابات، والتعامل مع الأسئلة الحساسة، و معرفة آلية التعامل مع رفض المشاركة في الاستطلاع، والمواقف التي يمكن أن يواجها الباحث، وآلية التعامل معها، ورفع نسبة الاستجابة والمشاركة، وفهم نفسية (سيكولوجية) المستجيب، واستخدام القواعد النفسية معها، وغيرها من الخطوات؛ حتى نضمن تحقيق مبدأ هام بأن الأسئلة قد طرحت بنفس الطريقة وبنفس الفهم لكل الفئات المستطلع رأيها.
وكذلك في مرحلة صياغة الأسئلة، والتي بينت بعض الدراسات أن نطاق الخطأ المحتمل لها قد يصل إلى أكثر من 30%، و يكفي ذكر عنوان فصل " كم من السهل أن تسال السؤال الخاطيء " من كتاب " قوة استطلاعات الرأي " The Power of Survey للدلالة على أهمية هذه المرحلة. وهكذا في كل مراحل تنفيذ هذه الدراسات؛ وذلك لتحقيق هدف وتحدٍّ أساسي هو تخفيف ما يسمى أخطاء غير خطأ المعاينة Non sampling Errors ) ) للوصول إلى درجة المصداقية والحيادية والدقة في فهم الظاهرة موضوع الدراسة.
ولو قدر لنا إجراء تقييم لمسار هذه الدراسات بمراحلها المختلفة، ومحاكمتها على الأسس العلمية المتفق أو شبه المتفق عليها، لتضح لنا حجم المأساة في نتائج العديد من هذه الدراسات. ويكفي النظر إلى وصف مسار الاستطلاعات العلميةBibliographic Description) ) لندرك دقة وأهمية هذه الخطوات والمراحل العلمية، والتي ربما توصلنا إلى قناعة أن العقل والجهد الفردي يستحيل أن ينتج نوعا كهذا من الدراسات الاستطلاعية الدقيقة وذات المهنية و المصداقية العالية.
ودون الخوض في تفصيل هذه المراحل والخطوات، يمكن أن نلحظ أن هذه الدراسات تقوم بممارسات خاطئة، وتواجه بعض الإشكاليات، فمثلا: تُجرى بعض هذه الدراسات على عدد قليل لا يرتقي ليكون عينة ممثلة لمجتمع الدراسة؛ فيكون من الخطأ أن تصدر نتائجها على شكل نسب مئوية، فهي أقرب – في هذه الحالة - إلى مجموعات نقاشية مركزة Focus group .
إشكالية أخرى من السهل ملاحظتها في عناوين أغلب هذه الدراسات، وهي تبسيط دراسة وتحليل الاتجاهات من خلال هذه الدراسة الميدانية اليتيمة، ففهم الاتجاهات يحتاج إلى دراسة نتائج العديد من استطلاعات حرفية وعلمية وعلى مدار سنوات متكررة تعتمد حسب طبيعية الموضوع، ثم تحكم بعدها على اتجاه شعب أو فئة معينة من الشعب بكذا. ونستطيع إدراك ذلك من خلال متابعة الجزء المخصص لدراسة الاتجاهات والتيارات The – Polls – trends في مجلة الرأي العام Public Opinion Quarterly العريقة، حيث يقوم الباحثون بدراسة عدد كبير من الاستطلاعات المنشورة مثلا في بنوك الاستطلاعات مثل Ipoll أو ICPSR كما جاء على سبيل المثال في العدد قبل الأخير في المجلة حول نظرة الشعب الأمريكي لكوريا الشمالية 2000-2007.
وبالرغم من أن هناك محاولات تقوم بها بعض الجهات وبعض التقاليد الأكاديمية لضبط جودة وعلمية هذه الدراسات، مثل ما تقوم به دائرة الإحصاءات العامة الأردنية في توزيع كتيب التعليمات لتوضيح المفاهيم التفصيلية لكل الباحثين الميدانيين، وأيضا في مجال الرسائل العلمية من خلال إرسال استمارة البحث إلى أساتذة جامعات ومختصين من أجل التحكيم والموافقة عليها، لكن هذه الإجراءات ما زالت تشكل جزءا بسيطا من تطورات متسارعة و خطوات علمية دقيقة في هذا المجال.
ليس هذا انتقاصا من هذا النوع من الدراسات؛ فبعضها شكّل إضافة جديدة للإنتاج العلمي والتراكم المعرفي والحقل الذي تنتمي إليه، ولكنها دعوة لضبط جودة هذا الإنتاج العلمي، وتوجيه الجهد الذي يبذل، والمال الذي يصرف، و الحد من الممارسات والإجراءات الخاطئة، وأيضا لتغيير الصورة الذهنية بأن هذه الدراسات هي الأسهل للحصول على الشهادات العلمية، والارتقاء بالرتب الأكاديمية .