نستطيع أن نقول : لا ، لأنّ الانسان حينما يفرغ من عمل ما ، فإنّه سينشغل بعمل آخر ربّما أقلّ أهمّية ، وربّما أكثر أهمّية ، فحتّى اللعب هو لون من ألوان العمل غير المنتج ، وقد يكون منتجاً في مردوده النفسيّ على اللاّعب .

وعلى أيّة حال ، فإنّ الاسلام ـ كما مرّ ـ يعطي للانسان الساعة التي يروّح فيها عن نفسه وعن أهله ويمارس فيها ملذّاته ، بل يعطي لهذه الساعة قيمة وأهمّية كبيرة لأ نّها المعينة على ساعات العمل والعبادة .

لكنّ الفراغ الذي نتحدّث عنه هو ليس هذا ، إنّما هو الوقت الضائع المضيّع ، أي الوقت الذي يتهاون فيه الشاب أو الشابّة في مسؤولياتهما الحياتية والرسالية ، فيعشيان حالة من الوقت العابث السلبي العاطل غير النافع .

وغالباً ما يقع الفراغ حينما نبعثر أوقاتنا ونتركها رهن الفوضى ، وعندما نجهل قيمة الوقت في أ نّه يمكن أن يكون فرصة لطلب العلم ، أو فرصة لتعلّم مهارة جديدة ، أو فرصة لتصحيح مفاهيم خاطئة ، أو فرصة لنفع عباد الله، أو فرصة لقضاء حاجة مؤمن ، أو فرصة للاطِّلاع على قضايا عالمنا الاسلاميّ ، أو فرصة لتنمية ما اكتسبناه من معارف سابقة ، أو فرصة للتعرّف على أخ في الله جديد ، أو فرصة لتوطيد علاقة قديمة مع صديق ، وهكذا ، حتّى لقد اعتُبر الوقت غير المستثمر خارج نطاق العمر ، ذلك أنّ العمر الحقيقي هو عمر المزرعة الذي ورد في الحديث، فهل عاقل من لديه أرض واسعة وصالحة للزراعة ويتركها بوراً ؟!
يقول أحد العلماء : إنّني أقرأ كثيراً فإذا ما تعبت من القراءة فإنّني أستريح بالقراءة ، وقد فسّر ذلك بقوله : إنّني أميل لقراءة الكتب العلمية الدسمة ، لكنّني حين أتعب من قراءتها ألتجأ إلى قراءة الكتب الأدبية أو التأريخية لأتخفّف من تعب القراءة العلمية .

أنظر إلى من حولك .. ألا تحترم ذاك الذي يقف في انتظار دوره أمام دكّان ، أو بانتظار الحافلة ، أو عند الطبيب وتراه حاملاً كتابه يقرأ فيه ؟!
ألا تحترم من يستذكر في أثناء طريقه قصيدة حفظها ، أو سورة من القرآن لا يريد أن ينساها ، أو يردّد بعض الأذكار التي تزيد من ارتباطه بالله سبحانه وتعالى ؟!
ألا تكنّ الاحترام والتقدير لمن يحمل في جيبه دفتراً صغيراً يدوّن فيه حكمة قرأها في صحيفة ، أو معلومة حصل عليها بالصدفة ، أو رقماً مهمّاً عثر عليه هنا أو هناك يعينه في الاستشهاد به والتدليل على ما يقوله، أو يسجِّل فكرة طرأت على ذهنه ويحاذر أن تفوته أو ينساها ؟

إنّ أجهزة الهاتف التي تُلحق بها مسجّلة لاستلام الرسائل الصوتية ، ومفكّرات الحائط التي توضع عند أبواب بعض المنازل يسجّل عليها الزائر ملاحظاته حينما لا يجد صاحب المنزل ، دليل على اهتمام صاحبها بما يجري في غيابه .

وإنّ الذي يطالع الصحف يومياً ويتابع نشرات الأخبار يومياً ، ويزور هذا الموقع على شبكة المعلومات (الانترنيت) أو ذاك ليتعرّف على ما يجري من حوله في عالم متغيّر ، هو إنسان حريص على أن لا يلقي وقته كورقة مهملة في سلّة المهملات ، إنّه يشعر بالانقطاع عن العالم إذا لم يواكب حركة العالم ، ولو حصل وانقطعت متابعته لشعر بالغربة أو بالوحشة أو بفقدان شيء ثمين .

لقد اكتشف أبناء إحدى القرى الاميركية إمرأة اُمّية تعلّمت القراءة والكتابة في وقت متأخر وبدون معلِّم.. وحينما سئلت قالت : لقد شعرت بوقت ثمين جدّاً ضاع منِّي فحاولت تعويضه ، ولذا كنت أسترق السمع والنظر إلى ابنتي الصغيرة وكنت ألتهم معها كلّ دروسها !

لذا ينبغي أن نسقط العبارات التالية من قاموس حياتنا :

ـ لقد فاتني القطار !
ـ لم يعد في العمر متسع .. لقد شخت وتعذّر القيام بذلك .
ـ ما فائدة العمل الآن .. لقد ضاعت فرص كثيرة .. إنّ الحظّ يعاكسني دائماً .
ـ لقد سبقني إلى ذلك كثيرون .. لم يعد لي مكان .
ـ جرّبت وفشلت لا داعي لتكرار التجربة .. إلخ .

علينا أن نستبدل تلك العبارات بالعبارة التالية : هناك دائماً وقت للعمل قبل الموت .

أمّا مقولة «تعويض الوقت الضائع» فهي غير دقيقة، فالوقت الضائع لا يعوّض ، والأداء غير القضاء ، والتمنّي أن يعود الشباب بعدما ترحل أيّامه أمنية كاذبة يردّدها الشعراء ولا إمكانية لتحققها في الواقع ، وما فات مات ، ولكن يمكن للشاب أو الشابّة أن يتفاديا المزيد من التقصير، والمزيد من التضييع بأن يعضّا بأسنانهما على المتبقِّي من الأوقات فلا يدعانها نهبَ اللهو والعبث والاسترخاء العاطل .
لقد ثبت بالتجربة أنّ الكسل والبطالة والفراغ عوامل داعية للانحراف والفساد ، وفي ذلك يقول الشاعر :

إنّ الشباب والفراغ والجدة***مفسدة للمرء أيّ مفسـدة

وينبغي بعد ذلك أن نفرِّق بين فراغ لا فائدة فيه ، وتفرّغ للمراجعة والنقد الذاتي والخلوة مع النفس ، أو أخذ إجازة لتجديد النشاط ، فهذا من العمل وليس من الفراغ ، وهو شيء محبّب ومطلوب لأ نّه من الأوقات التي تدرّ على الأوقات الاُخرى خيراً كثيراً .