بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله .. و بعد

أردت فيما يلي أن أقدم هذا البحث المتواضع في معنى كلمتي (( الكسب )) و (( الرزق ))
فكان هذا التساؤل ...

ما هو الكسب ؟و ما هو الرزق ؟ و ما الفرق بينهما ؟

قبل أن نشرع في البحث عن ماهية الكسب و الرزق ... لا بد أن نعرف معنى كل منهما
ففي مختار الصحاح باب ( كسب ) أن ( الكسب ) هو طلب الرزق و أصله الجمع
كما أن كلمة ( الرزق ) هو ما ينتفع به و الجمع ( الأرزاق ) و ( الرزق ) أيضاً هو العطاء
من هنا نستطيع أن نفرق بين الكسب و الرزق .. فنقول و بالله و التوفيق

ما هو الكسب ؟
الكسب هو طلب الرزق و بمعنى أوسع هو العمل و إن شئت قل هو نتيجة العمل سواء كانت هذه النتيجة مادية أو معنوية .
فمن يعمل لدى إنسان أو مصلحة أو مؤسسة فإنه يكسب نتيجة عمله هذا أجرا مادياً ..فالأجر هنا هو الكسب الذي هو نتيجة للعمل .
و نجد في قول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ }البقرة267 و قوله تعالى ( أنفقوا من طيبات ما كسبتم ) أي من أجود ما كسبتم من مال ..لأن الإنفاق لا يكون إلا بالمال فالمقصود بالكسب هنا ما جنيته من مال نتيجة عملك و تجارتك و ما وهبه الله لك .
و إن جعلنا الأمر على نطاق أوسع وجدنا أن من يعمل عملا صالحا يكسب حسنات مقابل ذلك و من يعمل عملا سيئاً ( عافانا الله و إياكم )يكسب السيئات و الآثام .
و في ذلك يقول الحق سبحانه و تعالى {وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }البقرة281 .. أي ما كسبت من خير أو شر .

ما هو الرزق ؟

الرزق هو كل ما ينتفع به من مال و مأكل و مشرب و مسكن و مركب و كل ذلك و هو مكفول و مضمون بضمان الله عز و جل له {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }هود6 .. {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ }الذاريات22 ..و لا ينفد رزق الله أبداً {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ }ص54 .. و في الحديث قال عبد الله بن مسعود حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق أنه يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات فيقول اكتب عمله وأجله ورزقه وشقي أم سعيد فوالذي نفسي بيده إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها * ( صحيح )

و الآيات في الرزق كثيرة و تبين أن الرزق بيد الله سبحانه و تعالى و لم يجعل لأحد من المخلوقين إليه سبيلا فهو سبحانه و تعالى الرزاق قال في كتابه الحكيم {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }هود6 فلا خوف من فوات الرزق و ضياعه و لكننا مطالبين بالسعي و تحقيق التوكل على الله تعالى بأخذ الأسباب ففي الحديث قال عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا * ( صحيح )

و بعد أن علمنا ما هو الكسب و ما هو الرزق يتضح لنا الفرق بينهما ...

فالكسب هو ذلك الأجر الذي تحصل عليه لقاء أي عمل تقوم به و لا يأتيك إلا ببذل مجهود
و الرزق هو ذلك العطاء المقسوم لك من رب البرية و هو الذي ييسره لك إما عن طريق طلبك له ( كأن تقوم أنت بالعمل ) و إما أن يأتيك بدون طلب و سعي منك ( كأن تكون أنت تحت رعاية و كفالة غيرك )فنحن نجد على مستوى الأسرة أن رب الأسرة هو الوحيد الذي يعمل و يتكسَّب و ما يأخذه من راتب ما هو إلا رزقه و رزق من يعول من أفراد أسرته ...فرزق الزوجة و الأبناء يأتيهم بدون سعي منهم عن طريق كسب الأب ..

فكل كسبٍ رزقاً و ليس كل رزقٍ كسباً ..
فالكسب لا يأتي إلا بسعي و طلب ...و الرزق قد يأتي بسعي و بدون سعي ...

الكسب و الرزق في القرآن الكريم ...

بالبحث عن كلمة ( كسب ) في القرآن نجدها قد تكررت (57) مرة بتركيبات مختلفة مثل ( كسب /كسبت / كسبوا /كسبتم /تكسبون /يكسبون ............ الخ )
و جميعها بمعنى كسب الحسنات و السيئات مثل قوله تعالى {وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ }الأنعام3 أي و يعلم ما تكسبون من خير و شر و في هذا قال الحق سبحانه {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ }غافر17 و قال أيضا {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ }المدثر38
و هنا نجد أن كلمة كسب إذا أطلقت في الآية كان المقصود بها كسب الخير أو الشر كما في الآيات السابقة ..
أما إذا أتت مقيدة فيقصد بها ما قيدت به مثل قوله تعالى {بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }البقرة81 و قوله أيضاً {وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً }النساء111 .. فالكسب هنا واضح جلي يتحدث عن كسب السيئات و الآثام ..
و لكن هناك مرة واحدة و ردت كلمة (كسب)بمعنى كسب المال في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ }البقرة267 ففي هذه الآية نداء من الحق سبحانه و تعالى لعباده المؤمنين و أمر لهم بالانفاق من أطيب و أجود ما كسبوا من المال ( المال بشتى صوره سواء كان نقداً أو عروض تجارة ... الخ )

و بالبحث عن كلمة ( رزق ) في القرآن نجدها قد تكررت (105) مرة بتركيبات مختلفة مثل ( رزق / رزقكم / ترزقون / يرزقون / يرزق /رزقها / رزقا / رزقناكم / رزقناهم ...... الخ )
فتارة تجدها في وصف المؤمنين في قوله تعالى {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ }البقرة3
كما تجدها في وصف ما للمؤمنين عند ربهم في الجنة {أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ }الأنفال4 و نجدها أيضاً في آية تبين تفاوت الأرزاق بين العباد فهناك الغني و هناك الفقير و هذا لحكمة يعلمها الله سبحانه و تعالى إذ يقول عزّ و جلّ {وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاء أَفَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَجْحَدُونَ }النحل71 لذلك قال الحق سبحانه و تعالى {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً }الإسراء30 .. أي يبسط الرزق و يوسعه على من يشاء من عباده .. و يضيقه أيضا على من يشاء من عباده . فهو سبحانه عالماً ببواطنهم و ظواهرهم فيرزقهم على حسب مصالحهم
و الرزق قد كفله الله سبحانه و تعالى كما أسلفنا في قوله عزّ من قائلٍٍ {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }هود6
و هو متاح للجميع و لكن يحتاج منا أن نسعى في طلبه كما قال تعالى {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ }الملك15 و تفسير هذا هو أن الله وحده هو الذي جعل لكم الأرض سهلة ممهدة تستقرون عليها, فامشوا في نواحيها وجوانبها, وكلوا من رزق الله الذي يخرجه لكم منها, وإليه وحده البعث من قبوركم للحساب والجزاء. وفي الآية إيماء إلى طلب الرزق والمكاسب, وفيها دلالة على أن الله هو الإله الحق وحده لا شريك له، وعلى قدرته, والتذكير بنعمه, والتحذير من الركون إلى الدنيا.( التفسير الميسر ).
و أكبر دليل على أنه لا بد للرزق من سعي إليه من قبل العبد ما جاء في قصة مريم عليها السلام من قوله تعالى لها {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً }مريم25 .. فهذا أمر من الله لها أن تقوم بهز جذع النخلة و هي التي قامت لتوها من المخاض و بها من الضعف و الوهن ما لا تستطيع معه أن تنقل حجرا من الأرض فضلا عن أن تقوم بهز جذع النخلة و الحق سبحانه و تعالى قادر على أن ينزل لها الرطب دون أن نقوم هي بهز الجذع و لكن لنتعلم أنه لا بد من السعي على الرزق .

فاللهَ سبحانه و تعالى أسأل ُ أن يجعلَ كسبنا لمعاشنا في الحياة الدنيا كسباً حلالاً طيباً و أن يجعل كسبناً لحياتنا الآخرة عملاً صالحاً متقبلاً
و نسأله سبحانه و تعالى أن يرزقنا رزقا حلالا طيباً و أن يبارك لنا فيه كما نسأله أن يرزقنا حبه و حب من يحبه و حب عمل يقربنا إلى حبه
إنه ولي ذلك و القادر عليه
هذا و صلى الله على نبينا محمد و على آله و صحبه و سلم

ما كان من صواب فمن الله وحده و ما كان من خطأ فمني و من الشيطان فأستغفر الله العظيم منه و أتوب إليه


منقول