أنت تصادف اليوم نوعا من الناس تجد الواحد منهم يتأبط كتابا ضخما بالإنجليزية أو الفرنسية، و يبرز من فمه سيجارا ضخما ينفث الدخان كمدخنة مصنع في لانكشير، فإذا رفعت يدك بالتحية رد عليك باللاتينية و بلسان معووج يتكلم برطانة أوروبية.. و مع الدخان المتصاعد و الفتات المتناثر من عدة لغات يقول لك في نبرة كلها انبعاج و خيلاء:
- هل قرأت ما يقوله جوستاف لوفافر في الدجوماطيقية و الفكر الاستطايقي و التدهور الرومانطيقي و الانحرافات السيكوباتية في المجتمعات الثيوقراطية.. في ملحق مجلة "الميتافيزيقا".. إنه مقال رائع ( و يقلب شفتيه).
مالنا نقف هكذا وسط الطريق.. دعني أدعوك على كأس في الهورس شو.. تعال.. سيكون حديثا ممتعا على أكواب البيرة.
فإذا اعتذرت له بأنك صائم حملق في دهشة كأنه يستمع إلى كلام ديناصور منقرض.. و فغر فاه تماما ثم قهقه، بل انفجر ضاحكا و كأنما ظفر بمعتوه هارب لتوه من مستشفى المجاذيب:
- تقول إنك صائم؟
و عاد يقهقه هذه المرة في إشفاق:
- و هل هناك من يصوم هذه الأيام.. هل تعتقد حقا في هذه ال.. ثم أشاح بيده استخفافا، فالمسألة لا تستحق عنده أن يبحث لها عن اسم.
و هو يقصد طبعا هذه الأديان.. و الخرافات.. و الأساطير.
- هل تصدق حقا أنك سوف تموت ثم تبعث و تصحو من قبرك و تحاسب.. و أن هناك إلها؟
ثم راح يتلفت حوله متسائلا:
- أين هو؟
يقصد أين الله. و كأنه يبحث عن سائق تاكسي.
- أتصدق هذه الغيبيات؟ أما زال هناك من يصدق هذه الغيبيات في عصر النور و العلم؟ أفق يا رجل من هذه الدروشة.. تعال.. لتكن الدعوة على كأس ويسكي لا بيرة، ولتكن معها شريحة لحم خنزير رائعة.
و يحمل عليك حملة شعواء بجميع اللغات لدرجة تفقدك التوازن و ربما الثقة بالنفس، فتعود لتتعلل في خجل بأنك ممنوع من الأكل و الشرب بسبب التهابات في المعدة. و يسوق هو في فلسفته:
- يا أخي نحن في عصر العلم، و لا يصح أن نستسلم لهذه الغيبيات، و لا يصح أن نؤمن بشيء إلا إذا أمسكناه بحواسنا الخمس، و رأيناه بالميكروسكوب، و شاهدناه بالتلسكوب، و رصدناه بالرادار، و التقطناه بالراديو. لا يصح الإيمان بغيب هذا أمر انتهى.
الغيب أمره انتهى، و هو الآن شغلة السذج.. هي كلمات نسمعها الآن عادة من هؤلاء المثقفين.
و لمثل هؤلاء المثقفين من أصحاب السيجار و الياقات العالية و الرطانة الأوروبية أقول في هدوء:
- بل هذا العصر هو عصر الغيب.. و العلم ذاته هو اعتراف بليغ بالغيب. و إلا فليقل لي واحد من هؤلاء العلماء.. ما هي الكهرباء؟ إننا نتكلم عن الكهرباء و لا نعرف عنها إلا آثارها من حرارة و ضوء و مغناطيسية و حركة.. أما الكهرباء ذاتها فهي غيب. نتكلم عن الإلكترون و نقيم صناعات إلكترونية و لا نعرف ما هو الإلكترون.. فهو غيب و نطلق الموجة اللاسلكية و نستقبلها و لا نعلم عن كنهها شيئا. و هي بالنسبة لنا غيب. بل إن الجاذبية التي تمسك بالأرض و الشمس و الكواكب في أفلاكها- و هي أولى البداهات – هي ذروة الغيب.
و العلم لا يعرف إلا كميات و مقادير و علاقات و لكنه لا يعرف كنه و لا ماهية أي شيء.
أنت تعرف طولك و عرضك و وزنك و مواصفاتك.. لكن ذاتك.. نفسك.. روحك.. لا تعرف عنها شيئا. إنها غيب.. و مع ذلك هي أكثر واقعية من أي واقع.
و إذا كان الواحد منا لا يعرف ذاته فكيف يدعي المعرفة بذات الله؟ و من باب أولى كيف ينفيها؟
و حينما يقول المفكر المادي. في البدء كانت المادة.. في البدء الأول قبل الإنسان و الحيوان و النبات.. ألا يكون كلامه هو الجرأة بعينها على منطقة زمنية هي الغيب المطلق.
و حينما يقول: نضحي بالجيل الموجود في سبيل جيل لم يولد بعد.. ألا يكون معنى كلامه التضحية بالواقع في سبيل الغيب؟
صدقوني نحن في عصر الغيب بل للأسف نحن في عصر الزنى بالغيب، و الدعارة بالعلم على يد أصحاب السيجار و الياقات العالية، و الرطانة الأوروبية.
المصدر : كتاب (( الشيطان يحكم ))
للدكتور مصطفى محمود