ليس الفقر فقط هو خلو مخازن الأغذية، وإحاطة العواصم بمدن الصفيح، أو ندرة المياه الصالحة للشرب، وإنما أخطر منه أمية العقل، وفقر المعرفة.
ولعل المشهد العام الذي يتكرر مع وجبة الفطور، ووجبتي الغداء والعشاء بتراتبية أخبار الانفجارات، والقتلى، والتخريب المتعمد، ووضع العالم الإسلامي في لائحة الإرهاب عندما تمنع السفارات تأشيرات الدخول لأقطارها، وتحاصر القائمين من مهاجرين ومقيمين وتذهب إلى إعلان الحروب على بعض الأقطار، يوضع في لائحة الفقر الأشمل، لأنك تتعامل مع مجتمعات تضع أولويات مهامها على حصانتها الأمنية، وقد حددت كيف تحافظ على مكتسباتها من خلال سنوات طويلة، غيّرت الكثير من السياسات، وطرحت مجمل الأهداف بأرقام بدأت بالآحاد وانتهت بالترليونات، عندما تعلن كل يوم عن اكتشافات واختراعات، وسلسلة طويلة من تنفيذ التطبيقات العملية، وتحويلها إلى السوق العالمي سلعاً تجارية..
مثلاً ما يعرف باقتصاد المعرفة، أصبح أحد مرتكزات السباق الدولي بين قوى تفكر كيف تعتمد ديمومة تقدمها، وعدم تنازلها عن تلك المكتسبات، وكيف ارتبطت هذه التجارة بخلق فجوة كبيرة بين من يصنع المعرفة، ويسوّقها، وبين من يستهلكها كضرورة، ولكن بدون إضافة أي جديد يتناسب وتلك العلوم..
الوطن العربي غارق في أحاديث الاتهام لمتهم معلوم ومجهول، ولكنه فصّل في معالم بيئته بمن يعلن الإرهاب ويتبناه، ومن يجعل سلوك الفساد طريقاً لتنمية موارد جيوش العيون الراصدة لحماية السلطة بدلاً من كفاية المواطن للضرورات الأساسية وتأمينها، ولعل ما سمي بالفجوة الحضارية بيننا وبين إسرائيل مثلاً، لا يفسر بمقولة أحد الأجانب: "إنكم، ولسوء حظكم، تواجهون استيطان نخبة العالم بجواركم". وقد يكون هذا جزءاً من حرب نفسية، لكن هذا الجوار لم يمنع دولاً متخلفة في منتصف القرن الماضي مثل الهند والصين، من قلب اتجاه بوصلتها إلى العالمية، لتحتل الصين قائمة ثالث اقتصاد في العالم متجاوزة ألمانيا، وقد تصل لليابان، وأمريكا، وتقتفيها الهند..
كل الذين أدركوا قيمة الإنسان ذهبت خططهم إلى الثروة البشرية، وكان نموذج مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا السابق هو الشكل والمضمون لبناء دولة إسلامية بتعدديات عرقية وأثنية وتفوز بجائزة الدولة المتقدمة متجاوزة كل التعقيدات ضمن هياكل بدأت بالتعليم، وانتهت بالسلعة المصدّرة وبإتقان تام لتركض إليها الاستثمارات التقنية العليا من كل الواجهات الحضارية المتقدمة..
هذا النموذج يثبت أن القضية في الإنسان، نشأته وبيئته، ومصادر عاداته وتقاليده التي أصبحت عند بعض المجتمعات متلازمة مع مسيرة حياته، وقيداً على تطوره، رغم وجود الفرص المتاحة باستغلال كل الإمكانات الكبيرة، وليست بالمعتقد، وإلا فكيف تعايشت أمم وشعوب مع قابلياتها الاجتماعية وتعددية أديانها وأعراقها لتنصهر في مجتمع الرفاه بدلاً من النزاعات؟
أليس ما يجري في دول المغرب العربي، والوسط والشرق صورة لحالة نادرة في تعبئة هذه الأمة لاقتتال نفسها باسم كل ما يعتبر خروجاً عن المنطق؟ ثم ألا ترى كيف أصبح العالم الإسلامي مخزناً هائلاً لكل التناقضات، وأن ما وحّدته الكلمة والعقيدة السمحة، فرّقه تسييس الدين، والذهاب به إلى أن يكون أحد مصنفات العالم في التخلف والدموية، وهو البريء والمتهم من معتقديه قبل أعدائه؟