عباد الله :أشارككم في حملتكم المباركة بخطبة ألقيتها بأحد الجوامع في هذا الموضوع المهم واسمي سعد العوفي خطيب جامع أهل الإحسان بالمدينة المنورة
من أهم المشكلات التي يقع فيها كثير من الناس فتحرمهم من رؤية النور ومن النمو الديني و الفكري والشخصي هي مشكلة التعصب وحين نأتي بكلمة التعصب فإننا لا نذكرها وحدها بل نقول التعصب المقيت لما نعلم فيه من مساوئ تعوق الأمم عن التقدم ناهيك عن الأفراد بل إنه كان سببا في إبادة ملايين الناس فهلكوا تحت رجف القنابل وطلق الرشاشات حين كان المحرك لبعض قادة الدول هو التعصب وشدة الانتماء للآراء مهما كانت متناهية في الظلم , وقد جاء ذكر أحوال المتعصبين لدين آبائهم في القرآن الكريم حين قال تعالى (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ) إن نبينا صلوات الله وسلامه عليه لم يجد في طريق دعوته أعتى وأشد عداوة من داء التعصب لدين الآباء فقد كان يدعو المشركين للإسلام فيتعصبون لدين آبائهم و ما يمنعهم من التصديق به إلا التعصب والجحود يقول تعالى (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون)
إن المتعصب أيها الكرام يتبرأ ممن لا ينتمي إلى فكره أو رأيه أو قبيلته أو إقليمه ومنطقته أو حزبه أو فريقه أو أي شيء ينتمي إليه حتى وإن لم يعلن براءته تلك للناس ولكنه يعتقد تلك البراءة في خاصة نفسه ويحتفظ بها في ظلمات وجدانه ولا يلزم من تلك البراءة أن تكون براءة من شخص ذلك المخالف ولكنها قد تصل إلى هذا الحد عند بعض من استشرى بهم هذا الداء فلم يدع لهم عقلا يفكرون به, والمتعصب لا يقبل عليك إلا إذا كنت موافقا له , ليس في مفردات شخصيته معنى الحوار أو التسامح أو التنازل عن الأفكار بل شعاره دائما
وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
إن كثيرا ممن يدعون الوسطية هم من أهل التعصب إما لإفراط وغلو أو تفريط وتمييع للدين . أيها الكرام: لا يكون التعصب ممدوحا إلا في حال واحدة لا ثاني لها إنه التعصب لثوابت الدين ومسلماته التي هي محل إجماع من علماء الدين الربانيين وعلينا جميعا أن نكون متعصبين لها وهنا لا يكون التعصب مقيتا بل شريفا ونبيلا هو جهاد في سبيل الدين يستحق صاحبه أن يمدح حين يمثل مفترقا للطرق بين سبيل المهتدين وسبيل الضالين
ولكن التعصب الذي علينا أن نحاربه جميعا هو أحد نوعين إما تعصب لباطل محض أو تعصب لحق يسوغ فيه الاختلاف وحين نتساءل عن أسباب التعصب فهي كثيرة نذكر منها ضعف العقل ومحدودية التفكير وربما كان ذلك بسبب قلة الحظ من التعليم ومن أسباب التعصب الانغلاق وعدم الانفتاح على الثقافات الأخرى وعدم التنويع في مخالطة من يخالفه في الفكر ومن يوافقه والثبات على قراءة فكر أحادي لا يخرج منه ولا يحيد
ومن الأسباب أيضا الوقوع في أسر المألوفات والعادات وقبضة الجماعة وهيمنة التوجه والخوف من الخروج عن المألوف وما يترتب عليه من ردود أفعال قد تقع وقد لا تقع. ومن أسبابه ضعف الشخصية والوقوع في التبعية للأشخاص وتقديسهم وتقديس أقوالهم وأفعالهم وتشديد النكير على من ينتقد فعلا فعلوه أو رأيا رأوه
ومن أسباب التعصب أيضا الغرور والكبر واعتقاد الكمال فيما يتعصب له من رأي أو قبيلة أو منطقة أو فكرة ينتمي إليها واحتقار ما يناقض أو يخالف ما يتعصب له.
ومن أسبابه قلة العلم الشرعي والتذرع بالغيرة على الدين مما يجعله ينكر في غير منكر لوجود ما يسوغه في القرآن أو السنة أو أقوال العلماء , ومن أسباب التعصب أيضا الحسد فتجد من يتعصب لا لأنه لم يقتنع ولكن لأن في قلبه مرضا يمنعه من الإذعان للحق والإقبال عليه إلى غير ذلك من أسباب توقع الإنسان في التعصب من حيث يدري ولا يدري فمن الناس من لا يدري أنه متعصب لا يدري أصلا أن لديه قدرا من التصلب الذهني يجعل الحوار معه شيئا لا يطاق!
أيها الأحبة : إن من عرف آثار التعصب من دمار في الدين والبلدان والأبدان والأموال وسائر الأحوال ثم علم بأسبابه لم يجد نفسه إلا تواقة إلى معرفة طرق الوقاية من هذا الداء المهلك وسبل الخلاص منه بكل حيلة يملكها
أما علاج التعصب فيكمن في أمور منها: أن يعتقد الإنسان عدم الكمال وتوقع النقص كما قال أحد الأعلام رأينا صواب يحتمل الخطأ ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب , وأن يحاور الناس إذا حاورهم باحثا عن الحق لا مريدا للاستعلاء عليهم أو إفحامهم وإظهار نقصهم . ومن علاج التعصب أيضا الانتماء للحق لا الرجال والأخذ بمبدأ اعرف الرجال بالحق لا الحق بالرجال فإن الرجال يصيبون ويخطئون والحق أبلج يعرفه أولو العلم والبصائر.
ومن العلاج الاستزادة من العلم الشرعي والاطلاع على الثقافات المتنوعة مع التنبيه أن الذي يدعى لتعديد المشارب من أتقن أصل العقيدة وفهم ثوابت الدين , ومن سبل العلاج أيضا العلم بالله سبحانه وأن أكرم الخلق على الله ليس المنتمي إلى تلك القبيلة أو ذلك الشعب أو الإقليم وإنما أكرمهم أتقاهم له وأخوفهم منه وهو ولا شك أعرفهم به سبحانه. بارك الله لي...

الحمد لله على إحسانه... عباد الله : لا ينبغي أن نعالج التعصب بتعصب مثله فليس تعصب فرد أو جماعة مسلمة يسوغ لنا أن نتعصب ضدهم فتنطوي قلوبنا على بغضهم ورد الحق إن صدر منهم فنرد على تعصبهم بتعصب مثله فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد علمنا كيف نتعامل مع المخالف حتى وإن كان ذلك المخالف هو الشيطان عدو بني آدم اللدود فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ فَأَتَانِي آتٍفَجَعَلَ يَحْثُو مِنْ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ لاَرْفَعَنَّكَ إِلَىرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَقَالَإِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ لَنْ يَزَالَعَلَيْكَ مِنْ اللَّهِ حَافِظٌ وَلاَ يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ. فَقالالنبي صلى الله عليه وسلم: "صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ ذَاكَ شَيْطَانٌ". ترى ألم يطرق هذا الحديث أسماع أولئك الذين يردون أقوال عالم أو داعية بجملتها لمجرد أنه أخطأ في مسألة من المسائل أو زل في قول أو فعل ألا فليرجعوا إلى رشدهم وليتذكروا قوله تعالى : ( ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) إن التعصب يحرم صاحبه من الاستفادة من العقول النابهة المستنيرة ويحرمه من مخالطة كثير من الأتقياء الذين لا ينتمون إلى ما يتعصب له , والسيرة النبوية ملئى بالاستفادة من الثقافات الأخرى فهذا سلمان يأتي بفكرة حفر الخندق من بلاد الفرس ويقبلها الرسول وعلينا أن نقبل الحكمة من أي أمة مهما اختلفنا معها في العقائد إذا لم تكن دينا ندين لله به فليس الدين إلا في الكتاب والسنة وما جاء به العلماء فهو تبيان لهما واستنباط وشرح لما جاء فيهما
ألا وصلوا وسلموا على الهادي ...